عميقًا في الأرض: كيف يدفنون ماضي الآخر

17 נובמבר, 2019

عميقًا في الأرض: PDF: HR-booklet_Arabic

مقدمة

غالبًا ما يركّز الانشغال بحقوق الإنسان على الحقوق الفردية. فالمبدأ الموجه لمعاهدات حقوق الإنسان هو أن جميع البشر، دون فرق في الدين والعرق أو الجنس، متساوون ويستحقون التمتع بمنظومة حقوق متماثلة. إلى جانب التعامل مع حقوق الإنسان كفرد، تطور في العقود الأخير الاعتراف بأن حقوق الإنسان ليست بالضرورة فردية، وينبغي أيضًا الحفاظ على حقوق المجموعة من أجل حماية هويّة الفرد وحريته. من أجل ذلك جرى صوغ الحقوق الثقافية (Cultural rights). وفق تعريفات مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، يحق لكل مجموعة التمتع بالقاسم المشترك الذي تكتشفه من داخلها. يؤدي انتهاك الحقوق التراثية إلى انتهاك منظومة المعتقدات الدينية المشتركة للمجموعة، وإلى انتهاك طقوسها وتقاليدها، وأنماط اللبس التي تميّزها، ولغتها وغيره. إن الاعتراف بالحقوق الثقافية يؤدي إلى بلورة مشاعر انتماء الفرد إلى محيطه[1]. بناء على ذلك، ثمّة أهمية لدراسة كيف تنعكس هذه الحقوق في فضاءات الصراعات العرقية، القومية، والدينية أو الطائفية.

تُركّز هذه الوثيقة على تحليل حفظ المواقع التراثية وعرضها في منطقة الحوض التاريخي في القدس، وكيف يؤدي ذلك إلى الاعتراف بالحقوق التراثية لكل مجموعة في المنطقة. فالتراث المعماري في القدس هو شهادة رئيسية على تعامل السلطات مع الحقوق الثقافية لمجموعة الأقلية في المدينة.

يبرز نضال مجموعات الأقلية من أجل الحقوق التراثية المعمارية في منطقة الحوض التاريخي في القدس في الحياة اليومية بسبب حوض البلدة القديمة القائم في لب الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والذي يشكل مركزًا دينيًا مقدسًا للديانات التوحيدية الثلاث.

 

 

الجزء أ: القدس – خلفية قانونية

أحتلت إسرائيل القدس الشرقية نهاية حرب الأيام الستة عام 1967 وقامت مباشرة بضمها إلى إسرائيل بناء على قرار حكومي[2]. وهكذا جرى ضم نحو 70 كلم مربعا للمدينة. حوض البلدة القديمة، والمسمى أيضًا الحوض التاريخي أو الحوض المقدس، يمتد على مساحة 6 كلم مربعا منها (وفق التعريف الأوسع له). يشمل الحوض التاريخي البلدة القديمة، أجزاء من حي سلوان بما فيها الموقع الأثري "مدينة داود/القدس القديمة، وادي النار، جبل الزيتون، جبل صهيون وشريطًا رفيعًا شمال البلدة القديمة. والمنطقة غربي البلدة القديمة وحتى المقبرة الإسلامية تعتبر أصلا خط الحدود الغربية للحوض التاريخي، وبقية المنطقة شرقي المدينة، ومساحتها 64 كلم مربعا، تتكون من قرى متجاورة جرى ضمها إلى إسرائيل.

 

أمر أنظمة الحكم والقضاء

جرى تشريع أمر أنظمة الحكم والقضاء قبل الإعلان عن دولة إسرائيل، في تاريخ 29 نيسان 1948، في اطار استعدادات اليشوف اليهودي لإنهاء الانتداب البريطاني، في 15 أيار من العام نفسه. ويهدف أمر أنظمة الحكم والقضاء إلى توفير قاعدة قانونية تسمح بإقامة مؤسسات الدولة الجديدة. وقد حدد ذلك الأمر الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وعرّف صلاحياتها. كما ألغى ذلك الأمر القوانين الانتدابية التي ميّزت ضد اليهود، مثل قوانين الكتاب الأبيض[3].

في تاريخ 28 حزيران 1967، نحو ثلاثة أسابيع بعد انتهاء حرب الأيام الستة واحتلال المناطق، أضافت الحكومة لأمر أنظمة الحكم والقضاء المادة 11ب، والتي أقرت بأن "القضاء، الحكم وإدارة الدولة تسري على جميع مناطق أرض إسرائيل التي حددتها الحكومة وفق الأمر الصادر[4]. وهكذا أتيح لدولة إسرائيل ضم منطقة نفود بلدية القدس الأردنية ومساحة واسعة في محيط القدس بما فيها قرى مختلفة.

 

 

قانون أساس: القدس عاصمة إسرائيل

قانون أساس: القدس عاصمة إسرائيل، والذي جرى سنه عام 1980، وأقر بأن القدس الموحدة هي عاصمة إسرائيل ومقر جميع رموز الحكم، بما فيها الكنيست، الحكومة، المحكمة العليا ومقر الرئيس[5]. أهمية هذا القانون هي على المستوى التصريحي في الأساس، فمنذ إقامة الدولة جرى تحديد مكان رموز الحكم في القدس، والمادة 11 ب من أمر أنظمة الحكم والقضاء سمحت بضم القدس الشرقية.

على مدار السنين جرت عدة تعديلات، والتي تبين تعامل المجتمع الإسرائيلي مع فكرة تقسيم القدس في إطار اتفاق سلام مع الفلسطينيين. بعد التوقيع على اتفاقيات أوسلو عام 1993، أقر أنه لا يمكن لمواد القانون الانتقاص أو التأثير على تطبيق تعليمات الاتفاقية المرحلية في الضفة الغربية (1996). تدل هذه الصياغة أنه، وكما يبدو، كان هناك اتفاق على تقسيم القدس في اطار اتفاق سلام مستقبلي مع الفلسطينيين. في المقابل، وفي العام 2000 أقرت الكنيست أنه لا يجوز نقل أي جزء من منطقة نفوذ القدس لطرف غريب[6]. وفي العام 2018 أقر بأن كل تغيير في منطقة نفوذ القدس يتطلب مصادقة من الكنيست بأغلبية 80 نائبا[7].

 

 


باب العامود في البلدة القديمة – نظرة من داخل البلدة القديمة

المكانة الدولة للقدس

القانون الإسرائيلي والقانون الدولي منقسمان بشأن مكانة القدس. لقد أنشأ كتاب القوانين الإسرائيلية قاعدة واسعة تبرر سيطرة دولة إسرائيل على جميع أجزاء القدس، الغربية والشرقية منها. في المقابل، فإن قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة يوم 29 تشرين الثاني 1947، أقر بأن القدس تخضع للولاية الدولية بإشراف الأمم المتحدة[8].

رغم هذا التناقض، حتى العام 1967 اعترفت معظم دول العالم بالقدس الغربية كعاصمة لدولة إسرائيل، لكن قرار ضم القدس الشرقية في نهاية حرب الأيام الستة أثار انتقادات دولية واسعة. اليوم، تتعامل جميع دولة العالم مع القدس الشرقية، بما فيها البلدة القديمة، كمنطقة محتلة، مثلها مثل بقية مناطق الضفة العربية. في أعقاب ضم القدس الشرقية طُرحت اقتراحات لتحويل القدس إلى منطقة حكم دولية بإشراف الأمم المتحدة وفق قرار التقسيم. لكن لم تكن لهذه المقترحات أية صلاحية عملية.

بعد سن قانون أساس: القدس عاصمة إسرائيل عام 1980، جرى تعزيز انتقادات سياسة إسرائيل بالأفعال. فمن ضمن أمور أخرى، صادق مجلس الأمن في الأمم المتحدة على قرار يقضي بعدم صلاحية قانون الأساس هذا[9]. علاوة على ذلك، قامت جميع الدولة الأعضاء في مجلس الأمن، وفي أعقابها بقية دول العالم، بنقل سفاراتها من القدس إلى تل أبيب ورمات غان. التغيير في السياسة الدولة بدأ عام 2018 مع نقل السفارة الأمريكية إلى القدس[10]، ومن ثم سفارة غواتيمالا[11] والبارغواي[12]. وفي العام نفسه اعترفت استراليا بالقدس الغربية عاصمة لدولة إسرائيل، لكنها رفضت نقل سفارتها من تل أبيب[13].

 

الجزء ب: القانون الدولي والآثار في الضفة الغربية والقدس الشرقية

على مدار السنين كُتبت عدة مواثيق التي بلورت القانون الدولي في المناطق المحتلة، من أجل ضمان حقوق السكان المحليين[14]. حماية الممتلكات الثقافية راسخة في اثنين من بروتوكولات اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حالات النزاع المسلح من العام 1954، والبروتوكول الثاني من العام 1999 (Hague Convention for the Protection of Cultural Property in the Event of Armed Conflict). تتناول هذه البروتوكولات المسؤولية الملقاة على عاتق قوة الاحتلال خلال تنفيذ حفريات لإنقاذ الآثار، ومسؤولية الحفاظ على التراث الثقافي للسكان الواقعين تحت الاحتلال. وقد وقعت إسرائيل على البروتكول الأول من الاتفاقية (1954)، لكنها رفضت التوقيع على البروتوكول الثاني (1999).

بموجب المادة 5 من الاتفاقية، بالإمكان إجراء حفريات انقاذ في منطقة محتلة فقط في ساعة الضرورة[15]. كما تنص هذه المادة أنه في حالة القيام بأعمال حفريات في منطقة محتلة فمن الأفضل القيام بذلك من قبل ممثلين عن السكان المحليين. لا تحدد اتفاقية لاهاي الأولى معايير القيام بحفريات أثرية وما هي إجراءات اختيار ممثلين عن السكان الواقعين تحت الاحتلال لإدارة الحفريات. ضبابية الاتفاقية والشروط التسهيلية للقيام بحفريات، أتاحت لإسرائيل تنفيذ آلاف الحفريات في الضفة الغربية بادعاء شرعيتها الدولية[16].

تلك الضبابية كانت أحد أسباب كتابة البروتوكول الثاني من اتفاقية لاهاي عام 1999. يحدد البروتوكول الثاني بشكل واضح ما هي المسؤوليات الملقاة على قوة الاحتلال في إدارة الموارد الأثرية وحقوق السكان الواقعين تحت الاحتلال. فالمادة 9 من البروتوكول على سبيل المثال، تحظر على قوة الاحتلال القيام بأعمال حفريات وتلزمها بالسماح للسكان المحليين من الاهتمام بعناية وصيانة الممتلكات الثقافية بقواها الذاتية. ولأن إسرائيل لم توقع على البروتوكول الثاني من اتفاقية لاهاي، فهي غير مُلزمة بالعمل وفق تعليماته، وهي تواصل القيام بحفريات عديدة في جميع أنحاء الضفة الغربية بدون مشاركة السكان الفلسطينيين المحليين.

تجاهل الدولة لتعليمات البروتوكول الثاني يبين كيفية استغلال الأثريات للانتهاك المتواصل لحقوق السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية، وخاصة انتهاك حقوقهم الثقافية. بواسطة ضابط مقر الآثار في الإدارة المدنية وجمعيّات تمثل المستوطنين، تستغل دولة إسرائيل الآثار لطرد الفلسطينيين من أراضيهم وعزلهم عن آثارهم المعمارية. لقد عملت مؤسسة عيمق شڤيه على توثيق الحفريات الأثرية في المناطق C في الضفة الغربية، واستغلالها من أجل طرد السكان الفلسطينيين من أراضيهم وبيوتهم[17]، وعزلهم عن المناطق الزراعية والموارد الطبيعية[18]، ومحو وهدم التراث المعماري[19] واستبداله بالتراث اليهودي، والذي لا يستند غالبًا على أي اكتشافات في الموقع[20].

 

 

أما في منطقة القدس الشرقية فإن استغلال الآثار أكثر تعقيدًا، ويدل على ازدواجية تعامل الدولة مع القانون الدولي. وفق القانون الإسرائيلي، القدس الشرقية والبلدة القديمة هي جزء من مناطق السيادة لدولة إسرائيل، لذلك فإن الدولة لا تعترف بتعليمات القانون الدولي. فعلى سبيل المثال، تقع مسؤولية الحفاظ والحفر في المواقع الأثرية في القدس الشرقية على عاتق سلطة الآثار، بينما لم تمنح الدولة المواطنة للسكان الفلسطينيين الذين يعيشون هناك. هكذا تشكلت فجوة بين المكانة القانونية للسكان الفلسطينيين في القدس الشرقية والمكانة القانونية للمخلفات الأثرية التي يعيشون بينها. هذه الحالة من الفصل بين تراث المنطقة وسكانها المحليين يفتح الباب أمام انتهاكات حقوقهم الثقافية في الحيّز العام.

 

الحفريات في موقف جبعاتي، حي سلون

 

 

 

حقوق ثقافية

تهدف الحقوق الثقافية، والتي تضم الحقوق التراثية، إلى حماية الهويّة الجمعية لمختلف المجموعات السكانية. ويهدف الاعتراف بهذه الحقوق إلى حماية منظومة المعتقدات، والتقاليد، واللغة والعادات لمجموعة معينة من المجتمع. هنالك وثيقتان دوليتان أساسيتان تكرسان الحقوق الثقافية:

الاتفاقية الدولية الأولى هي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (Universal Declaration of Human Rights)[21]. في العام 1948 تبنت الأمم المتحدة هذه الاتفاقية والتي تتناول تحديد الحقوق الأساسية لجميع أبناء البشر، دون فرق في الجنس، والقومية، والعرق، والدين أو غيرها. رغم أن إسرائيل لم توقع على هذه الاتفاقية، فلقد تطرقت إليها المحكمة الإسرائيلية العليا في عدة قرارات. ومن الجدير هنا الإشارة إلى الماد 27 من الاتفاقية، والتي تنص على أن لكل شخص حق المشاركة الحرة في حياة المجتمع الثقافية وبدون خوف من الملاحقة.

الاتفاقية الثانية هي العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية، والاجتماعية والثقافية (International Covenant on Economic, Social and Cultural Rights)[22]، والتي صادقت عليها الأمم المتحدة عام 1966، وأصبحت سارية المفعول في عام 1975، والتي صادقت عليها إسرائيل في العام 1991. تلزم هذه الاتفاقية الدول الموقعة عليها بالعمل من أجل احقاق كامل الحقوق المذكورة فيها، بما فيها الحق في العمل، الحق في الصحة، والحق في التعلم والغيرية. المادة 15 من هذا العهد يرسخ الحقوق الثقافية وينص على حق كل فرد بالمشاركة في الحياة الثقافية والتمتع بفوائد التقدم العلمي.

في السنوات الأخيرة يطرح بشدة سؤال كيفية تعزيز الحقوق الثقافية بما فيها حقوق التراث المعماري. وفي العام 2010 عين مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة (Human Rights Council) باحثة خاصة للحقوق الثقافية، من أجل توضيح هذا المفهوم وتزويد الهيئات العاملة على تعزيز الحقوق الثقافية بإمكانيات الكشف عن انتهاكات تلك الحقوق وحماية مختلف المجموعات[23].

ضمن أمور أخرى تطرقت الباحثة إلى القضايا التالية:

  • انتهاك حقوق مختلف المجموعات بواسطة منع المنالية التراثية.
  • الحق في المعرفة، وخاصة الحق بالمعلومات عن تراث منطقة سكن الفرد وحقه بالمشاركة الفعلية في مراكمة تلك المعرفة.
  • حق الجماعات بعرض تراثها وفق تصوراتها.
  • نزعة التطرف ضد الآخر وإقصائه من المجتمع بواسطة رفض تراثه الخاص[24].

القاسم المشترك لجميع القضايا أعلاه هو الإدراك بأن أهمية الحقوق التراثية مثلها مثل الاعتراف بالتقسيم الاجتماعي، والقومي والديني في المجتمع. وهو الاعتراف الذي يملي تعاملًا مختلفًا مع الماضي والتراث الخاصين بالحيّز. ومن أجل تعزيز الحقوق التراثية، يتطلب منظومة قوانين وترتيبات من أجل المجموعات ومن أجل تصوّرات التعامل مع تراثها في الحيّز[25].

يجري التعبير عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في القدس عبر السعي لتعزيز السيطرة المادية والسيطرة الرمزية السردية التي تعزوها كل مجموعة للحيّز. المبادرة الفلسطينية التي صادقت عليها اللجنة الإدارية في منظمة اليونسكو في شهر تشرين الأول 2016 بخصوص الأماكن المقدسة للديانتين، أثارت في إسرائيل انتقادات شديدة؛ طالب المسلمون بتجاهل تسمية الحرم الشريف لدى اليهود باسم "هار هبايت" (جبل الهيكل)، وحائط البراق باسم "هكوتيل همعربي" (الحائط الغربى)[26]. إلى جانب أحداث سياسية ودبلوماسية أخرى، دفعت هذه المبادرة وغيرها إسرائيل إلى الإعلان عن الانسحاب من منظمة اليونسكو في عام 2018، وأصبح هذا الإعلان ساريًا منذ كانون الثاني 2019[27].

في المقابل، وبعد مقتل شرطيين في مدخل جبل الهيكل/الحرم الشريف في تموز 2017، قررت حكومة إسرائيل نصب آلات كاشفة للمعادن في مواقع الدخول. وجرى الرد على هذا القرار بمعارضة واسعة من قبل الفلسطينيين مواطني إسرائيل وسكان المناطق. وتم اعتبار ذلك اعتداءً على قدسية الحرم الشريف وانتهاكًا للوضع القائم بين الدولة ولجنة الوقف الإسلامي، المسؤولة عن إدارة الحرم الشريف/جبل الهيكل[28].

تشهد هاتان الحالتان على حساسية الإسرائيليين والفلسطينيين للأهمية الرمزية لمدينة القدس والقيم التراثية لمواقع المدينة. هذه الحساسية كبيرة بشكل خاص في ضوء التغيرات التي تحدث في جيل الهيكل/الحرم القدسي الشريف، بسبب قدسيته العالية لدى اليهود والمسلمين على حد سواء.

 

القدس كمركز للتراث العالمي من قبل اليونسكو

اليونسكو (UNESCO – United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization) هي منظمة تابعة للأمم المتحدة تعمل على تعزيز التعليم، العلوم والثقافة في العالم. وهي مسؤولة عن مراكز التراث العالمي (World Heritage Center)، ومن بين مجالات مسؤولياتها الأساسية هي تعزيز قائمة مراكز التراث العالمي. تعكس المراكز التي تقع ضمن هذه القائمة القيم الكونية في التراث الإنساني ويتم اختيارها وفق مجموعة معايير[29]. تم الإعلان عن المراكز الأولى من القائمة عام 1978، وحتى كتابة هذه السطور تم الإعلان عن 1092 مركزًا للتراث العالمي في أنحاء العالم[30].

نشأت الحاجة إلى الاعتراف بمراكز التراث العالمي في أعقاب تدمير العديد من المواقع الأثرية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، نتيجة تسارع أعمال التطوير في جميع أنحاء العالم. ومن الأمثلة البارزة على ذلك الأضرار التي لحقت بالمواقع الأثرية الهامة على طول حوض نهر النيل في عام 1954، عندما تم بناء سد أسوان. ونتيجة لذلك، تم  في عام 1972 توقيع اتفاقية حماية التراث الثقافي والطبيعي العالمي (Convention Concerning the Protection of the World Cultural and Natural Heritage)[31]. تنص المادة 19 من الاتفاقية على أن قائمة المراكز تضم فقط المواقع الواقعة داخل أقليم الدولة التي تصادق على الوثيقة. وقّعت إسرائيل على هذه الاتفاقية عام 1999 وتم ضم عشرة مراكز من داخلها ضمن القائمة[32]، أما القدس فقد كانت ضمن القائمة منذ العام 1981 وفق اقتراح الأردن. عملية ضم القدس ضمن القائمة يعكس إذًا التناقض القائم بين القانون الإسرائيلي الذي يطبق السيادة الكاملة على شرقي القدس والبلدة القديمة، وبين القانون الدولي الذي يعتبرها منطقة أحتلت من المملكة الأردنية التي ما زال ارتباطها بالقدس قائمًا.

وفق ادعاءات إسرائيل، لم يكن للمملكة الأردنية صلاحية اقتراح مدينة القدس القديمة على قائمة مواقع التراث العالمي، وكانت أسباب اقتراحها سياسية بحتة وليست مهنية[33]. لذلك، لم تتعاون إسرائيل مع ممثلي اليونسكو الذين كانوا يرغبون في معرفة ما إذا كان قد تم الحفاظ على قيمها كما ينبغي[34]، وفي أعقاب ذلك، إضافة إلى التوتر بخصوص حفر أنفاق الحائط الغربي، أعلنت اليونسكو في عام 1982 عن القدس القديمة وأسوارها  كموقع تراث عالمي في خطر.

مكانة البلدة القديمة في القدس كمركز تراث عالمي، وكذلك مصادقة إسرائيل على اتفاقية مراكز التراث العالمي لمنظمة اليونسكو، أدت إلى مراقبة اليونسكو لما تقوم به إسرائيل في القدس القديمة وانتقادها. في العام 2003 بادرت اليونسكو إلى برنامج لحماية مراكز التراث في القدس (Action Plan for the Safeguarding of the Cultural Heritage of the Old City of Jerusalem)[35] بالتعاون بين ممثلين عن الحكومة الإسرائيلية. في العام 2013 كان من المفترض أن يصل إلى إسرائيل وفدًا من قبل مركز التراث العالمي من أجل دراسة البرنامج، لكن الوفد ألغى زيارته في اللحظة الأخيرة بسبب اتهامات متبادلة بين إسرائيل والفلسطينيين حول التحيّز السياسي القائم في برنامج العمل[36]. حتى قبل العام 2011 اعترفت اليونسكو فلسطين كدولة عضو في المنظمة واتاحت للسلطة الفلسطينية تقديم اقتراحات لمواقع تراث عالمية في مناطق الضفة الغربية. في العقد الأخير تدهورت العلاقات بين إسرائيل واليونسكو، ووصلت إلى إلغاء عضوية إسرائيل في المنظمة في شهر كانون الثاني 2019.

 

القسم ج: ثلاث حالات دراسة

فيما يلي ثلاثة مواقع أثرية لا تعتبر مواقع مقدسة: الأنفاق الجوفية تحت قرية سلوان؛ معرض "رحلة إلى القدس" في أنفاق الحائط الغربي، تحت الحي الاسلامي في البلدة القديمة؛ ومنطقة الحفريات الأثرية في حديقة "مدينة داود" الأثرية، والمعروفة باسم المنطقة G.

بينما تدل هذه المواقع من الناحية التاريخية على الطابع متعدد الثقافات للقدس، تركز طريقة عرضها على تراث وسياقات يهودية فقط.

النفق تحت حي سلوان

يعد حفر الأنفاق أحد المشاريع الرئيسية التي تجري في حي سلوان منذ عام 2004. وقد بدأ حفر الأنفاق هذه بعد اكتشاف مخلفات أثرية في موقع تم التعرف عليه على أنه حمام سباحة من العصر الروماني، على المنحدرات الجنوبية لموقع مدينة داود الأثرية. لاحقًا، تم اكتشاف جزءًا من شارع روماني قديم هناك. أثناء الحفريات في مجمع حمام السباحة، بدأت أيضًا حفريات أفقية على عمق الأرض، حيث تم الكشف عن بقايا نظام الصرف الصحي من الشارع الروماني. في أعقاب تلك الحفريات، تقرر إغلاق منطقة حمام السباحة لصالح موقع مدينة داود السياحي. ونتيجة لذلك، مُنع سكان سلوان الفلسطينيين من الدخول إلى المنطقة، سواء لغرض الوصول إلى المسجد وروضة الأطفال الواقعة على الجانب الآخر، أو كحيّز عام[37]. يوضح هذا القرار كيف أن تصميم المواقع التراثية في سلوان واستخداماتها لا يأخذان بالحسبان أهميتها في نظر السكان الفلسطينيين المحليين، ويولي أهمية حصرية للعلاقة التاريخية للشعب اليهودي.

منذ الكشف عن النفق عام 2004، تجري أعمال حفريات متتالية معظمها في أنفاق تمر تحت الشارع الرئيسي وتحت بيوت سكان سلوان[38]. وتجري الحفريات على طول شارع وادي حلوة على سفح أسس حائط المبكى/جبل الهيكل/الحرم الشريف في البلدة القديمة[39]. تجري الحفريات من قبل سلطة الآثار لصالح سلطة الطبيعة والحدائق وجمعيّة إلعاد التي تدير الموقع، وهدفها المعلن هو الكشف عن الشارع، والذي يُقدم للجمهور كأنه "مسار الحجاج"، المرتبط بمسار الحجاج اليهود الذين جاؤوا إلى الهيكل أواخر فترة الهيكل الثاني، لكن تأريخ وتشخيص الشارع هما موضع خلاف.

 

 

الحفريات تحت شارع وادي حلوة

 

من الناحية المهنية، من المتعارف عليه أن الحفريات الأثرية تتم من على السطح باتجاه الأسفل، رأسيًا، بهدف جعل الحفريات مستوية قدر الإمكان. وبالتالي، من الممكن توثيق وتحديد الانتقال من طبقة حياة واحدة إلى أخرى، وجمع النتائج المادية التي تميز كل فترة بدقة قدر الإمكان. نظرًا لأن حفريات "طريق الحجاج" تجري تحت الأرض، يتم تنفيذها بشكل أفقي، وهذه الطريقة تجعل مهمة الفصل بين طبقات الحياة القديمة شبه مستحيلة وتؤدي إلى إتلاف المخلفات الأثرية بشكل لا رجعة فيه. في البداية، أثار انعدام مهنية الحفريات في الأنفاق (تحت الأرض) في سلوان معارضة سلطة الأثار[40].

مع ذلك، ادعى علماء الآثار الذين نفذوا الحفريات أن هذه الطريقة ليست إشكالية، لأن الطبقات التي تم العثور عليها فوق مسار "طريق الحجاج" هي حشوات التربة وليست طبقات من الحياة القديمة. لكن، مثل العديد من المواقع الأثرية في إسرائيل وحول العالم، كان من الممكن أن يكون الحفر العلمي في هذه الطبقات مفيدًا للغاية لفهم التغييرات التي حدثت في مدينة داود عبر الأجيال. تعرض سلطة الطبيعة والحدائق وجمعيّة إلعاد الكشف عن الشارع وعن الموقع كله كجزء من تاريخ الشعب اليهودي، وهذا التركيز على الشارع يتجاهل الطبقات التي تتعلق بالعلاقة اليهودية مع المكان. أيضًا سلطة الآثار تبنت موقف جمعيّة إلعاد بخصوص الحفريات تلك وتحولت مع الوقت إلى شريك كامل.

يتيح حفر الأنفاق الأرضية إنشاء فضاءين متوازيين؛ هكذا يصبح زوار الأنفاق جمهورًا أسيرًا، الذي ينكشف على الجولة اليهودية لحجاج جبل الهيكل، لكنه يتجاهل الحي الفلسطيني القائم فوقه، كما لا تعرض عليه الشكوك التي يربطها الباحثون بين الشارع القديم وبين طريق الحجاج من فترة الهيكل الثاني.

علاوة على ذلك، تم العثور على تصدعات في العديد من المنازل الفلسطينية الواقعة فوق طريق النفق، وفي بعض الحالات، أدت تلك التصدعات إلى خطر الانهيار، الأمر الذي تطلب إجلاء السكان[41]. حتى لو كانت العلاقة بين التصدعات والأنفاق المحفورة تحت منازل السكان ظرفية بحتة، فإن عدم وجود خطط لتحديد أماكن الحفر المسموحة يمنع أي وسيلة قانونية لمعارضتها، مما يعني ترك السكان الفلسطينيين عاجزين أمام يحدث تحت منازلهم.

 

معرض "الرحلة إلى القدس"

يتم عرض معرض "رحلة إلى القدس" تحت معبد أوهيل يتسحاق، على الجانب الشرقي من ساحة الحائط الغربي، بجوار شارع هغاي في الحي الإسلامي. الحديث عن معرض افتراضي، الذي يدعو الزوار إلى متابعة رحلة أفراد عائلاتهم منذ تدمير الهيكل الثاني حتى قيام دولة إسرائيل[42]. تم الكشف عن فضاء المعرض خلال حفريات الانقاذ الأثرية التي تم تنفيذها في إطار إعادة بناء كنيس أوهيل يتسحاق في السنوات 2004-2007 (تم بناء الكنيس في القرن الثامن عشر ودمرته القوات الأردنية في عام 1948).

خلال عمليات الحفر في الموقع جرى اكتشاف عدة مراحل وجود رئيسية، بدءًا من الفترة الرومانية القديمة (القرن الأول قبل الميلاد) وحتى يومنا هذا. إحدى مراحل الوجود المثيرة التي اكتشفت شبه كاملة هو الحمام، جزء من الخان المملوكي الذي بُني في القرن الرابع عشر والمعروف باسم "خان درج العين"[43]. وهذه المراكز هي جزء من مشاريع بناء حاكم دمشق في القدس، سيف الدين تنكز، الذي ساهم كثيرًا في ازدهار المدينة واهتم ببناء سوق القطن، أحد المراكز التجارية الكبيرة في البلدة القديمة حتى يومنا، وكذلك ساهم في بناء الخان وحمامات أخرى. وقد خصص الحمام للمسلمين المصلين في الحرم القدسي الشريف، وهناك شهادات بأن اليهود أيضًا كانوا يزورون حمامات أخرى في المدينة[44].

في العام 2007 بدأت أعمال حماية الحمام وتهيئته لزيارة الجمهور في اطار مجموعة مراكز أنفاق حائط المبكى. شملت الأعمال حفظ أجزاء من الحمام والخان المجاور له وحفظ مخلفات أقدم. حاليا يقسم الحمام إلى فضاءين. ووفق ملاءمة مخطط نتائج الحفريات الأثرية التي جرت هناك، يشمل الفضاء الأول المنطقة التي ضمت في الماضي الغرفة الساخنة الجافة وأجزاء من غرف أخرى مجاورة لها. وتم تحويل هذه الغرف إلى قاعة مناسبات باسم "أحير كوتلينو". ووفق التعليمات المنشورة على موقع مؤسسة تراث الحائط الغربي، بالإمكان استخدام تلك القاعة لأهداف تربوية، ومناسبات تتعلق بنشاطات مؤسسة تراث الحائط وتوسيق وتعزيز عمل المؤسسة، وكذلك لمناسبات المؤسسات الرسمية للدولة، ومناسبات خاصة لمن يتبرع بمبلغ أكثر من 36,000 دولار أمريكي لمؤسسة تراث الحائط، ولنشاطات يشيفه "نتيف آريه" و"إيس هتوراة"[45]. هكذا يتم استثمار هذا الفضاء كمن يتماثل مع مجموعة ذات هوية يهودية دينية فقط. في المقابل، لا توجد أية معلومات عن الاستخدامات الأصلية للحمام كجزء من الخان المملوكي، وخلل الجولة التي قمنا بها من أجل كتابة هذا القرير، لم يعرف أي شخص من المرشدين في الجولة أن يحكي لنا عن تاريخ الموقع.

هذا التجاهل يصبح صارخًا أكثر لدى الحديث عن الفضاء الثاني، والذي كان في الماضي عبارة عن خزانة ملابس الحمام، واليوم يستخدم لعرض معرض "الرحلة إلى القدس"، وهي عبارة عن رحلة افتراضية في أعقاب عائلة الزائر على مدار سنوات الشتات. حيث يجلس كل زائر على كرسي أمام حاسوب شخصي، ويختار المحطات التي مر بها أجداده على مدار الأجيال وفق تقديراته، وحتى قيام الدولة. بناء على منشورات مؤسسة تراث الحائط، يتم تنظيم المعرض بعد دراسة استمرت عدة سنوات، رصد خلالها الباحثون مسارات ترحال الشعب اليهودي منذ خراب الهيكل الثاني وحتى العودة إلى القدس في الفترة المعاصرة[46].

 

قاعة المناسبات "موقع كوتلينو"، أوهل يتسحاق

كل محطة تعرض فيلمًا قصيرًا لوصف المشاهد التي ميّزت، كما يدعون، حياة اليهود في تلك الفترة. وتعبر تلك المشاهد عن حنين اليهود للقدس وعن عدم قدرتهم على الاندماج في البيئة الغريبة. وحتى عندما يظهر في المشهد يهوديًا اندمج بشكل جيد في المجتمع الذي عاش فيه، يتم عرض هذا الاندماج كحالة مؤقتة فقط.

أفلام تصف الأوضاع في القدس في كل "محطة زمنية" وتتساءل هل كان مسموح لليهود دخول القدس، من خلال تجاهل عمليات التطوير التي مرت بها المدينة على مر الأجيال، وتسعى إلى الربط بين الاغتراب الذي اختبرته الجاليات اليهودية المختلفة في الشتات، وبين الوضع الكئيب في القدس منذ خراب الهيكل. ويبرز تجاهل عمليات التطوير خلال السنين بشكل خاصة في المحطات التي تمثل العصرين المملوكي والعثماني، حيث لا يتم التطرق بتاتًا لجميع عمليات التطور الواسعة التي حدثت في القدس وأثرت على التخطيط المادي للبلدة القديمة كما نراها اليوم.

 

إقامة معرض "الرحلة إلى القدس" وقاعة المناسبات الملاصقة له هي وسائل لتجاهل ومحو تاريخ القدس المتعدد الثقافات. وعرض تاريخ القدس وتاريخ الشعب اليهودي منذ خراب الهيكل الثاني يشكلان فضاءً ماديًا متجانسًا تحت الأرض، الذي يشكل بديلًا للمدنية الفعلية، التي تعج بالحياة فوق رؤوس زوار المعرض، بينما يتم حجب المباني المملوكية عن أنظارهم رغم أن المعرض قائم بين جدران تلك المباني.

هكذا تسمح سلطة الآثار بتحويل موقع له أهمية تاريخية والذي يعبر عن تاريخ المدينة من القرن الرابع عشر وصاعدًا، إلى مورد خاص بيد جمعيّة تروي حكاية منعزلة ومشوّهة.

 

المنطقة G مدينة داود

المنطقة G هي تسمية أطلقها علماء الآثار على منطقة تقع على قمة تلة مدينة داود. تقع هذه المنطقة اليوم على سفح مركز الزوار وهي في لب الخلاف الذي يشغل معظم علماء الآثار الذين حفروا في القدس كلها وفي سلون/مدينة داود بالذات: كم كان حجم المدينة في عهد مملكة داود وأين تقع؟

جرت العديد من الحفريات الأثرية في المنطقة G من قبل علماء آثار مختلفين، بينهم ماكليستر، كاثلين كنيون[47]، يغال شيلا[48] وإيلات مزر[49]. تم الكشف خلال الحفريات عن مبنى مدرّج ومبانٍ أخرى تتقاطع معه في نقاط مختلفة. يختلف علماء الآثار فيما بينهم بالنسبة لتأريخ المبنى المُدرّج: بعضهم يدعي أنه من القرن التاسع قبل الميلاد وغيرهم يعتقد أنه من القرن الثامن قبل الميلاد[50].

 

هذه الخلاقات تلقي الشكوك حول إمكانية تحديد حجم وقوة القدس في فترة مملكة داود. تشهد الأبعاد الضخمة للمبنى على مجتمع يتميز بالتقسيم الاجتماعي المعقد وحكم مركزي قوي، والذي قاد مشاريع عمار مدهشة. لكن ندرة الاكتشافات الأخرى في مدينة داود في القرن العاشر قبل الميلاد، عندما عاش الملك داود على ما يبدو، تجعل من الصعب على الباحثين إثبات موثوقية الكتاب المقدس وإسناد الهيكل إلى عهد مملكة داود.

نادراً ما تكشف سلطة الطبيعة والحدائق، التي تدير الموقع، عن الخلافات في البحوث الأثرية للجمهور. فالجولات الرسمية لإدارة الموقع تعرض وجهة نظر تفسيرية مفادها أن المبنى المُدرّج في المنطقة G هو دليل على قصة التوراة وقوة القدس في عهد مملكة داود.

رغم أن داود وسليمان هما الملكان الوحيدان اللذان يحظيان بمكانة النبي في الإسلام، إلا أن المعرض يؤسس قصة داود وفق رواية التوراة فقط، بصفته الملك الذي أسس ووحّد شعب إسرائيل. هكذا يجري إقصاء الزوار الفلسطينيين عن هذا الفضاء، ومحو رواياتهم التاريخية كليًا.

لقد تكثفت هذه النزعة في السنوات الأخيرة، في أعقاب قرار جمعيَة إلعاد بتسييج وإغلاق المنطقة G بعد ساعات المعرض وفي أيام السبت والأعياد اليهودية، على الرغم من التفاهم من أيام الانتداب البريطاني وعلى الرغم من توجيهات سلطة الطبيعة والحدائق بأن هذه المناطق ستظل مفتوحة للجمهور الواسع على مدار أيام السنة[51]. في أعقاب الالتماس الذي قدمته مؤسسة عيمق شفيه بالتعاون مع سكان سلوان، طُلب من سلطة الطبيعة والحدائق تبرير لماذا تم اغلاق المنطقة في بعض أيام السنة، وحتى كتابة هذه السطور لم يتم الحصول على رد سلطة الطبيعة.

عملية تسييج هذا الموقع الأثري لمدينة داود إلى موقع تراث لا يختلف جذريًا عن جدار الفصل، والذي يعتبر بنظر الفلسطينيين وسيلة لتكريس الاحتلال بواسطة عزل وتجزئة بلداتهم في القدس الشرقية، بل يقوم الموقع بأكثر من ذلك حيث يعمل على استضافة زوار في حي فلسطيني دون معرفتهم ويحول الفلسطينيين إلى غرباء في بيوتهم.

 

المنطقة G، مدينة داود

تلخيص واستنتاحات

سلسة القوانين التي تعود إلى إقامة دولة إسرائيل عام 1948، مرورًا بضم القدس الشرقية عام 1967، تخلق التمييز البنيوي بين السكان الفلسطينيين وبين الأثريات والتراث المعماري في منطقتهم. وبينما يوفر القانون الدولي ردًا لتلك الانتهاكات، فإن إسرائيل تنفض يدها منه بشكل منهجي ومن كل ما يتعلق بمراكز التراث المعماري. علم الآثار لا يكتفي هنا بدراسة الماضي، فكثيرًا ما يجري استغلاله على نحو شبه علني من أجل محو هويّة وانتماء السكان الفلسطينيين في القدس والشرقية وبشكل عام.

حالات الدراسة التي قمنا بعرضها هنا تدل على طرق تفسير وعرض التراث المعماري في القدس وكيفية استغلاله للمس بالحقوق التراثية للسكان الفلسطينيين في الحوض التاريخي في القدس.

استخدام التراث المعماري في تلك المواقع ينتهك مشاعر أمن وانتماء السكان الفلسطينيين في المنطقة، وخاصة الانفاق التي حفر فيها "طريق الحجاج"، حيث تم الكشف عن تصدعات في العديد من البيوت والمباني فوق مسار الحفريات تحت الأرض[52]. كما إن الاغلاق التعسفي للمناطق دون اعلان مسبق، مثل المنطقة G وغيرها، ومخطط إقامة التلفريك فوق سطوح بعض بيوت الفلسطينيين، يشكل انتهاكًا خطيرًا لأسلوب حياتهم وتراثهم وحقهم في الحياة[53].

إن الشرط المسبق للنهوض بالحقوق الثقافية هو إشراك جميع السكان، وخاصة السكان المحليين، في عملية جمع المعلومات، ومراكمة المعرفة وعرضها على الجمهور الواسع، لكن السكان الفلسطينيين مستبعدون من ذلك باستمرار. اختارت كل من سلطة الآثار الإسرائيلية وسلطة الطبيعة والمتنزهات الوطنية في إسرائيل، وهما الهيئتان الرسميتان المكلفتان بمراكمة وعرض المعرفة في الحوض التاريخي في القدس، التعاون مع جمعية مستوطني إلعاد ومؤسسة تراث الحائط الغربي، اللتان تستغلان الآثار لتعزيز مكانتهما على حساب الحقوق التراثية للسكان الفلسطينيين.

يتعامل "طريق الحجاج" ومعرض "رحلة إلى القدس" فقط مع التفسيرات التي تربطهما بالماضي اليهودي في القدس، حتى لو كان الحديث عن علاقة منعزلة ومشكوك فيها. في حين أن المخلفات الأثرية تحصل على مكانة قانونية ويُنظر إليها على أنها تعبير عن السيادة الإسرائيلية في المنطقة، يتحول الفلسطينيين إلى مقيمين غير شرعيين وليس لهم صلة ثقافية أو رمزية أو دينية بالمنطقة. هكذا، يتم تعزيز مواقف الجمهور الإسرائيلي من الفلسطينيين على أنهم أعداء، وأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو لعبة محصلتها صفر ولا يمكن أن يفوز فيها سوى طرف واحد.

إسرائيل لا تتجاهل حقوق السكان فحسب، بل تمنع من الإسرائيليين إمكانية التعرف على القدس وآلاف سنوات تاريخها وعشرات العصور التي بلورت الحيّز الأكثر أهمية للشعبين معًا.

[1]  UN Economic and Social Council Committee on Economic, Social and Cultural Rights, 43rd session, General comment 21, “cultural life.”

[2]  جرى الضم بناء على المادة 11 ب من أمر أنظمة الحكم والقضاء. (بالعبرية)

[3]  أنظروا الصياغة الأصلية لأمر أنظمة الحكم والقضاء هنا. (بالعبرية)

[4]  أنظروا تعديل أمر أنظمة الحكم والقضاء هنا. (بالعبرية)

[5]  لقراءة نص قانون أساس: القدس عاصمة إسرائيل هنا.

[6]  انظروا تعديل قانون أساس هنا. (بالعبرية)

[7]  انظروا تعديل قانون أساس هنا. (بالعبرية)

[8]  لقراءة نص قرار التقسيم هنا. (بالانجليزية)

[9]  لقراءة القرار انظروا هنا.

[10]  شليف، ط، أشكنازي، أ، هورودونيتشانو، 2018. افتتاح سفارة الولايات المتحدة في القدس: "يوم تاريخي" . Walla News

[11]  بارأون، ج، 2018. نقل سفارة غواتيمالا إلى القدس مشبعة بالكثير من سلاح الماضي. موقع هأرتس.

[12]  نير، 2018. ثلاث سفارات انتقلت.DAVAR1

[13]  رفائيل، أ 2018. استراليا اعترفت فقط بالقدس الغربية عاصمة لإسرائيل. القنال 20.

[14]  لمراجعة تفصيلية حول موقف القانون الدولي من المسؤولية الملقاة على عاتق قوة الاحتلال تجاه السكان المحليين، أنظروا شتنهل، ز 2017. يستملكون الماضي: الاستخدام الذي تقوم به إسرائيل للمواقع والاكتشافات الأثرية في الضفة الغربية. القدس: عيمق شفيه ويش دين.   (بالعبرية)

[15]  للاطلاع على الاتفاقية.

[16]  Greenberg, R., Keinan, A. 2009. Israeli Archaeological Activity in the West Bank 1967-2007: a Sourcebook. Jerusalem: Ostracon and Emek Shaveh.

[17]  انظروا على سبيل المثال تقرير عيمق شفيه عن سوسيا: سوسيا: حالة إجلاء السكان بعد اكتشاف كنيس قديم.

[18]  انظرو على سبيل المثال حول سلب حقوق الفلسطينيين في النبي عنير. (بالعربية)

[19]  على سبيل المثال أنظروا يونتان مزارحي، آنا فيادر 2014. تل شيلو (خربة سلوان): المسكن الضائع في الصراع السياسي على السامرة، القدس، عيمق شفيه؛ يونات مزراحي، جدعن سوليماني 2013. النبي صموئيل – قصة قرية أسيرة في الحديقة الوطنية. القدس، عيمق شفيه.

[20]  على سبيل المثال، آنا فيدر، جدعون سوليماني، يونتان مزراحي 2015. المواقع الأثرية في الصراع السياسي على منطقة بيت لحم/غوش عتسيون: الإمكانيات الاقتصادية والثقافية، القدس: عيمق شفيه، 2017؛ القطعة المفقودة: بلورة السرديات في متحاف في الضفة الغربية، القدس: عيمق شفيه. (بالعبرية)

[21]  لقراءة النص العربي للإعلان العالمي لحقوق الإنسان هنا.

[22]  لقراءة النص العربي للعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية هنا.

[23]  أنظروا Report of the Independent Expert in the Field of Cultural Rights, Ms. Farida Shaheed, Submitted Pursuant to Resolution 10/23 of the Human Rights Council.

 

[24]  بالإمكان مراجعة التقارير التي أصدرتها الباحثة هنا.

[25]  https://newsarchive.ohchr.org/EN/NewsEvents/Pages/DisplayNews.aspx?NewsID=11312&LangID=E

[26]  لقراءة النص الكامل القرار هنا.

[27]  باري، أ، 2019. إسرائيل تنسحب من اليونسكو: أداة في خدمة أعداء الدولة. سروغيم: موقع القطاع المتدين.

[28]  حسون، ج، 2017،  وضع كاشفات المعادن على مدخل جبل الهيكل؛ اندلاع مواجهات بالقرب من الموقع. موقع جريدة هأرتس.

[29]  لقائمة المعايير انظروا هنا.

[30]  لمعلومات إحصائية حول قائمة مراكز التراث العالمي من قبل اليونسكو انظروا هنا.

[31]  لقراءة الاتفاقية انظروا هنا.

[32]   https://whc.unesco.org/en/statesparties/il

[33]  رغم عدم السماح لإسرائيل بالمشاركة في مناقشة ضم القدس لقائمة مواقع التراث العالمي، بالإمكان اعتبار تصريحات الولايات المتحدة تمثيلا للموقف الإسرائيلي. انظروا هنا.

[34]  Ricca, S. 2007. Reinventing Jerusalem: Israel’s Reconstruction of the Jewish Quarter after 1967, pp. 145-155. London, New York: I.B Tauris.

 

[35]  انظروا هنا.

[36]  Giannoulis, K. 2013. Israel Called off the Mission. New Europe

[37]  انظروا هنا.

[38]  Reich, R. 2011. Excavating the City of David: Where Jerusalem’s History began. Jerusalem: Israel Exploration Society.

[39]  للاستزادة أنظروا تقرير عيمق شفيه: القدس السفلى حفر جحور وأنفاق سفلية (تحت الأرض) في منطقة الحوض المقدس.

[40]  أنظروا هنا.

[41]  حسون، ن، 1/3/2010, بئر على عمق 4 أمتار في حي سلوان شرقي القدس، موقع هأرتس. (بالعبرية)

[42]  للمزيد من المعلومات، أنظروا موقع المعرض هنا.

[43]  بربا، ح، دعدالا، 2007. القدس، كنيس أوهيل يتسحاق. أخبار الأثريات في الانترنت، 119.

[44]  بن آريه، ي، 1979. مدينة بمرآة العصر: القدس في القرن التاسع عشر. القدس: اصدار يد يتسحاق بن تسفي. ص 78-109. (بالعبرية)

[45]   https://www.thekotel.org/hakeren/nehalim/klale

[46]  https://www.thekotel.org/western_wall_sites/journey_to_jerusalem

[47]  Kenyon, K. 1974. Digging Up Jerusalem. Praeger: New York.

[48]  شيلا، ي، 1984. حفريات مدينة داود. كيدم 19. القدس: اصدار الجامعة العبرية.

[49]  مزر، أ، 2010. الحفريات في رأس تلة مدينة دواد وفي عوفل 2005-2010. كدمونيوت: مجلة الآثار في أرض إسرائيل وبلاد التوراة 140: 80-88.

[50]  للنقاش المفصل حول تأريخ المبنى المدرج والمنطقة G انظروا: Gadot, Y. 2017. The Monumentality of Iron Age Jerusalem Prior to the 8th century BCE. Tel aviv 44(2): 123-140; Knaupf, E.A, 2000. Jerusalem in the Late Bronze and Early Iron Ages. Tel Aviv 27(1); Finkelstein, I., Koch, I., Lipschitz, O. 2011. The Mound on the Mount: a Possible Solution to the ”Problem with Jerusalem”. The Journal of Hebrew Scriptures 11: 2-24  

 

[51]  أنظروا البيان الصحفي الصادر عن مؤسسة عيمق شفيه في أعقاب قرار المحكمة العليا في هذا الالتماس. (بالعبرية)

[52]  حسون، ن، 1/3/10. بئر بعمق 4 أمتار في حي سلوان في القدس الشرقية، موقع جريدة هأرتس.

[53]  للمزيد من المعلومات حول المخطط الخلافي الإقامة تلفريك بين موقع المحطة الأولى وموقع كيدم في سلوان، أنظروا هنا.